كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



إن هذا الكون الهائل. سماواته وأرضه. شمسه وقمره. ليله ونهاره. وما في السماوات والأرض من خلق، ومن أمم ومن سنن، ومن نبات ومن طير ومن حيوان، كلها تجري على تلك السنن..
إن هذا الليل الطامي السادل الشامل، الساكن إلا من دبيب الرؤى والأشباح. وهذا الفجر المتفتح في سدف الليل كابتسامة الوليد الراضي. وهذه الحركة يتنفس بها الصبح فيدب النشاط في الحياة والأحياء. وهذه الظلال الساربة يحسبها الرائي ساكنة وهي تدب في لطف. وهذا الطير الرائح الغادي القافز الواثب الذي لا يستقر على حال. وهذا النبت النامي المتطلع أبداً إلى النمو والحياة. وهذه الخلائق الذاهبة الآيبة في تدافع وانطلاق.
وهذه الأرحام التي تدفع والقبور التي تبلع، والحياة ماضية في طريقها كما شاء الله...
إن هذا الحشد من الصور والضلال، والأنماط والأشكال، والحركات والأحوال، والرواح والذهاب، والبلى والتجدد، والذبول والنماء، والميلاد والممات، والحركة الدائبة في هذا الكون الهائل التي لا تني ولا تتوقف لحظة من ليل أو نهار..
إن هذا كله ليستجيش كل خالجة في كيان الإنسان للتأمل والتدبر والتأثر، حين يستيقظ القلب، ويتفتح لمشاهدة الآيات المبثوثة في ظواهر الكون وحناياه.. والقرآن الكريم يعمد مباشرة إلى إيقاظ القلب والعقل لتدبر هذا الحشد من الصور والآيات.
{إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام}..
إن ربكم الذي يستحق الربوبية والعبادة هو هذا الخالق، الذي خلق السماوات والأرض. خلقها في تقدير وحكمة وتدبير:
{في ستة أيام}..
حسب ما اقتضت حكمته أن يتم تركيبها وتنسيقها وتهيئتها لما أراده الله.
ولا ندخل في تحديد هذه الأيام الستة. فهي لم تذكر هنا لنتجه إلى تحديد مداها ونوعها. وإنما ذكرت لبيان حكمة التقدير والتدبير في الخلق حسب مقتضيات الغاية من هذا الخلق، وتهيئته لبلوغ هذه الغاية..
وعلى أية حال فالأيام الستة غيب من غيب الله، الذي لا مصدر لإدراكه إلا هذا المصدر. فعلينا أن نقف عنده ولا نتعداه. والمقصود بذكرها هو الإشارة إلى حكمة التقدير والتدبير والنظام، الذي يسير به الكون من بدئه إلى منتهاه.
{ثم استوى على العرش}..
والاستواء على العرش. كناية عن مقام السيطرة العلوية الثابتة الراسخة، باللغة التي يفهمها البشر ويتمثلون بها المعاني، على طريقة القرآن القرآن في التصور (كما فصلنا هذه في فصل التخييل الحسي والتجسيم من كتاب التصوير الفني في القرآن).
و{ثم} هنا ليست للتراخي الزماني، إنما هي للبعد المعنوي، فالزمان في هذا المقام لا ظل له. وليست هناك حالة ولا هيئة لم تكن لله- سبحانه- ثم كانت. فهو- سبحانه- منزه عن الحدوث وما يتعلق به من الزمان والمكان. لذلك نجزم بأن {ثم} هنا للبعد المعنوي، ونحن آمنون من أننا لم نتجاوز المنطقة المأمونة التي يحق فيها للعقل البشري أن يحكم ويجزم. لأننا نستند إلى قاعدة كلية في تنزيه الله سبحانه عن تعاقب الهيئات والحالات، وعن مقتضيات الزمان والمكان.
{يدبر الأمر}..
ويقدر أوائله وأواخره، وينسق أحواله ومقتضياته، ويرتب مقدماته ونتائجه، ويختار الناموس الذي يحكم خطواته وأطواره ومصائره.
{ما من شفيع إلا من بعد إذنه}..
فالأمر كله له، والحكم كله إليه. وما من شفعاء يقربون إلى الله زلفى. وما من شفيع من خلقه إلا حيث يأذن له بالشفاعة، وفقاً لتدبيره وتقديره، واستحقاق الشفاعة بالإيمان والعمل الصالح، لا بمجرد التوسل بالشفعاء.. وهذا يواجه ما كانوا يعتقدونه من أن للملائكة التي يعبدون تماثيلها شفاعة لا ترد عند الله!
ذلكم الله الخالق المدبر الحاكم الذي لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه.
{ذلكم الله ربكم}.. الخليق بالربوبية {فاعبدوه} فهو الذي يستحق الدينونة له دون سواه.. {أفلا تذكرون}؟.. فالأمر من الثبوت والوضوح بحيث لا يحتاج إلا لمجرد التذكر لهذه الحقيقة المعروفة..
ونقف لحظة أمام قوله تعالى بعد عرض دلائل الألوهية في السماوات والأرض:
{ذلكم الله ربكم فاعبدوه}..
وقد قلنا: إن قضية الألوهية لم تكن محل إنكار جدي من المشركين، فقد كانوا يعترفون بأن الله- سبحانه- هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبر المتصرف القادر على كل شيء.. ولكن هذا الاعتراف لم تكن تتبعه مقتضياته. فلقد كان من مقتضى هذا الاعتراف بألوهية الله على هذا المستوى أن تكون الربوبية له وحده في حياتهم.. والربوبية تتمثل في الدينونة له وحده؛ فلا يتقدمون بالشعائر التعبدية إلا له؛ ولا يحكمون في أمرهم كله غيره.. وهذا معنى قوله تعالى:
{ذلكم الله ربكم فاعبدوه}..
فالعبادة هي العبودية، وهي الدينونة، وهي الاتباع والطاعة، مع إفراد الله سبحانه بهذه الخصائص كلها، لأنها من مقتضيات الاعتراف بالألوهية.
وفي الجاهليات كلها ينحسر مجال الألوهية. ويظن الناس أن الاعتراف بالألوهية في ذاته هو الإيمان؛ وأنه متى اعترف الناس بأن الله إلههم فقد بلغوا الغاية؛ دون أن يرتبوا على الألوهية مقتضاها وهو الربوبية.. أي الدينونة لله وحده ليكون هو ربهم الذي لا رب غيره، وحاكمهم الذي لا سلطان لأحد إلا بسلطانه..
كذلك ينحسر معنى العبادة في الجاهلية، حتى يقتصر على مجرد تقديم الشعائر. ويحسب الناس أنهم متى قدموا الشعائر لله وحده، فقد عبدوا الله وحده.. بينما كلمة العبادة ابتداء مشتقة من عبد. وعبد تفيد ابتداء دان وخضع. وما الشعائر إلا مظهر واحد من مظاهر الدينونة والخضوع لا يستغرق كل حقيقة الدينونة ولا كل مظاهرها.
والجاهلية ليست فترة من الزمان، ولا مرحلة من المراحل. إنما هي انحسار معنى الألوهية على هذا النحو، معنى العبادة. هذا الانحسار الذي يؤدي بالناس إلى الشرك وهم يحسبون أنهم في دين الله! كما هو الحال اليوم في كل بلاد الأرض، بما فيها البلاد التي يتسمى أهلها بأسماء المسلمين، ويؤدون الشعائر لله، بينما أربابهم غير الله، لأن ربهم هو الذي يحكمهم بسلطانه وشريعته، وهو الذي يدينون له ويخضعون لأمره ونهيه، ويتبعون ما يشرعه لهم، وبذلك يعبدونه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «.. فاتبعوهم. فذلك عبادتهم إياهم» في حديث عدي بن حاتم الذي أخرجه الترمذي.
ولتوكيد معنى العبادة المقصود جاء في السورة ذاتها قوله تعالى: {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون}
وما نحن فيه اليوم لا يفترق في شيء عما كان عليه أهل الجاهلية هؤلاء الذين يناديهم الله بقوله:
{ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون}..
اعبدوه ولا تشركوا به شيئاً. فإن مرجعكم إليه، وحسابكم عنده، وهو يجزي المؤمنين والكافرين:
{إليه مرجعكم جميعاً وعد الله حقاً}..
إليه وحده لا للشركاء والشفعاء.
وقد وعد فلا خلف ولا تخلف، فالبعث هو تتمة الخلق:
{إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون}..
فالعدل في الجزاء غاية من غايات الخلق والإعادة:
{ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط...}.
والنعيم بلا منغصات وبدون عقابيل تعقب اللذة غاية من غايات الخلق والإعادة. إنها قمة الكمال البشري الذي يمكن أن تصل إليه البشرية لا تصل إلى شيء من هذا في هذه الأرض وفي هذه الحياة الدنيا المشوبة بالقلق والكدر، والتي لا تخلو فيها لذة من غصة، أو من عقابيل تعقبها- إلا لذائذ الروح الخاصلة وهذه قلما تخلص لبشر- ولو لم يكن في هذه الحياة الدنيا إلا الشعور بنهاية نعيمها لكان هذا وحده ناقصاً منها وحائلاً دون كمالها. فالبشرية لا تصل في هذه الأرض إلى أعلى الدرجات المقدرة لها، وهي التخلص من النقص والضعف ومعقباتهما، والاستمتاع بلا كدر ولا خوف من الفوت ولا قلق من الانتهاء.. وهذا كله تبلغه في الجنة كما وصف القرآن نعيمها الكامل الشامل. فلا جرم يكون من غاية الخلق والإعادة إبلاغ المهتدين من البشرية، الذين اتبعوا سنة الحياة الصحيحة وناموس الحياة القويم، إلى أعلى مراتب البشرية.
فأما الذين كفروا فقد خالفوا عن الناموس، فلم يسيروا في طريق الكمال البشري، بل جانبوه، وهذا يقتضي- حسب السنة التي لا تتخلف- ألا يصلوا إلى مرتبة الكامل، لأنهم جانبوا قانون الكمال؛ وأن يلقوا عاقبة انحرافهم كما يلقى المريض عاقبة انحرافه عن قوانين الصحة الجسدية. هذا يلقاه مرضاً وضعفاً، وأولئك يلقونه تردياً وانتكاساً، وغصصاً بلا لذائذ- في مقابل اللذائذ بلا غصص.
{والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون}..
وبعد هذه اللفتة من آيات الله في خلق السماوات والأرض إلى عبادة الله وحده، الذي إليه المرجع وعنده الجزاء.. يعود السياق إلى الآيات الكونية التالية في وجودها وضخامتها للسماوات والأرض:
{هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون}..
فهذان مشهدان بارزان من مشاهد الكون، ننساهما لطول الألفة، ونفقد وقعهما في القلب بطول التكرار، وإلا فكيف وهلة الإنسان وهو يشاهد أول مرة أول شروق شمس وأول غروب، وأول مطلع قمر وأول مغيب؟
هذان مشهدان مألوفان مكروران يردنا القرآن إليهما، ليثير في مشاعرنا وهلة الجدة، وليحيي في قلوبنا إحساس التطلع الحي، والتأمل الذي لم يبلده التكرار، والتيقظ لما في خلقهما وطبيعة تكوينهما من التدبير المحكم:
{هو الذي جعل الشمس ضياء}.
فيها اشتعال.
{والقمر نوراً}..
فيه إنارة.
{وقدره منازل}..
ينزل في كل ليلة منزلاً يكون فيه على هيئة خاصة، كما هو مشهود في القمر، بدون حاجة إلى علوم فلكية لا يدركها إلا المتخصصون.
{لتعلموا عدد السنين والحساب}..
وما تزال المواقيت والمواعيد تضبط بالشمس والقمر لكافة الناس.
هل هذا كله عبث؟ هل هذا كله باطل؟ هل هذا كله مصادفة؟
كلا ما يكون كل هذا النظام، وكل هذا التناسق، وكل هذه الدقة التي لا تتخلف معها حركة. ما يكون هذا كله عبثاً ولا باطلاً ولا مصادفة عابرة:
{ما خلق الله ذلك إلا بالحق}..
الحق قوامه. الحق أداته. والحق غايته. والحق ثابت راجح راسخ. وهذه الدلائل التي تشهد به واضحة قائمة دائمة:
{يفصل الآيات لقوم يعلمون}..
فالمشاهد التي تعرض هنا في حاجة إلى العلم لإدراك التدبير الكامن وراء المشاهد والمناظر.
ومن خلق السماوات والأرض، ومن جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وتقديره منازل تنشأ ظاهرة الليل والنهار، وهي ظاهرة موحية لمن يفتح قلبه لإيحاء المشاهد والظواهر في هذا الكون العجيب:
{إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون}..
واختلاف الليل والنهار تعاقبهما. ويشمل كذلك اختلافهما طولاً وقصراً، وكلتاهما ظاهرتان مشهودتان تذهب ألفة المشاهدة بجدة وقعهما في الحس. إلا في اللحظات التي تستيقظ فيها النفس، وينتفض فيها الوجدان للمطالع والمغارب، فيقف في الشروق وفي الغروب وقفة الإنسان الجديد في هذا الكون، يتطلع إلى كل ظاهرة جديدة فيه بعين مفتوحة وحس مستجيب. وهي هي اللحظات التي يحياها الإنسان حياة كاملة حقيقية، وينفض فيها التيبس الذي خلفته الألفة في أجهزة الأستقبال والاستجابة..
{وما خلق الله في السماوات والأرض}..
ولو وقف الإنسان لحظة واحدة يرقب {وما خلق الله في السماوات والأرض} ويستعرض هذا الحشد الذي لا يحصى من الأنواع والأجناس، والهيئات والأحوال، والأوضاع والأشكال. لو وقف لحظة واحدة لامتلأ وطابه وفاض بما يغنيه حياته كلها، ويشغله بالتدبر والتفكر والتأثر ما عاش.. ودع خلق السماوات والأرض وإنشاءهما وتكوينهما على هذا النحو العجيب، فذلك ما يوجه إليه القلب بالإشارة السريعة، ثم يتركه ليتملاه.. إن في ذلك كله:
{لآيات لقوم يتقون}..
تستشعر قلوبهم هذا الوجدان الخاص. وجدان التقوى. الذي يدع هذه القلوب مستجاشة حساسة، سريعة التأثر والاستجابة لمجالي القدرة ومظاهر الإبداع ومعجزات الخلق المعروضة للأنظار والأسماع.
هذا هو منهج القرآن في مخاطبة الفطرة البشرية بآيات الله الكونية، المبثوثة حول الإنسان في هذا الكون؛ والتي يعلم الله سبحانه أن بينها وبين فطرة الكائن البشري لغة مفهومة، وإيحاءات مسموعة!
ولم يلجأ المنهج القرآني إلى الأسلوب الجدلي الذي جد فيما بعد عند المتكلمين والفلاسفة؛ لأن الله يعلم أن هذا الأسلوب لا يصل إلى القلوب ولا يتجاوز منطقة الذهن الباردة التي لا تدفع إلى حركة؛ ولا تؤدي إلى بناء حياة؛ وقصارى ما تنتهي إليه حركة في الذهن البارد تتلاشى في الهواء!
ولكن الأدلة التي يقدمها المنهج القرآني- بأسلوبه هذا- هي أقوى الأدلة المقنعة للقلب والعقل جميعاً- وهذه ميزتها- فإن وجود هذا الكون ذاته أولاً.